سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


قلت: من فتح {أنه}، جعله بدلاً من الرحمة، ومن كسره؛ فعلى الاستئناف، و{بجهالة}: حال، ومن قرأ {فإنه} بالكسر؛ بالجملة: جواب الشرط، ومن فتح؛ فخبر عن مضمر، أي: فجزاؤه الغفران، أو مبتدأ؛ فالغفران جزاؤه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا}؛ وهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، خصهم بالإيمان بالقرآن، بعد ما وصفهم بالمواظبة على الطاعة والإحسان، فإذا أقبلوا إليك {فقل} لهم: {سلام عليكم}؛ تحية مني عليكم، أو من الله أبلغه إليكم، {كَتب ربكم على نفسه الرحمة} أي: حتمها عليه فضلاً منه، وهي {أنه من عمل منكم سوءًا} أي: ذنبًا {بجهالة} أي: بسفاهة وقلة أدب، أو جاهلاً بحقيقة ما يتبعه من المضار والمفاسد، {ثم تاب من بعده} أي: من بعد عمل السوء {وأصلح} بالتدارك والندم على إلا يعود إليه، {فأنه غفور} لذنبه، {رحيم} به بقبول توبته.
قال البيضاوي: أمرَه أن يبدأ بالتسليم، أو يُبلغ سلام الله ويبشرهم بسعة رحمته وفضله، بعد النهي عن طردهم؛ إيذانًا بأنهم الجامعون لفضيلَتَي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يُقَّرب ولا يُطرَد، ويُعز ولا يُذل، ويُبشِّر من الله بالسلامة في الدنيا وبالرحمة في الآخرة، وقيل: إن قومًا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبَنا ذنوبًا عِظامًا، فلم يَرُدَّ عليهم، فانصرَفوا، فنزلت. اهـ.
قال القُشَيري: أحلَّه محل الأكابر والسَّادات، فإنَّ السلام من شأن الجَائِي إلاَّ في صفة الأكابر، فإنَّ الجائي والآتي يسكت لهيبة المأتِي، حتى يبتدىء ذلك المقصودُ بالسؤال، فعند ذلك يجيب الآتي. اهـ.
الإشارة: مِن شأن الأكابر من الأولياء، الداعين إلى الله، إكرامُ مَن أتى إليهم بحُسن اللقاء وإظهار المَسَّرة والبُرور، وخصوصًا أهل الانكسار فيُؤنسونهم، ويُوسعون رجاءهم، ويفرحونهم بما يسمعون منهم من سعة فضل الله وكرمه.
كان الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه إذا دخل عليه أحد من أهل العصيان كأرباب الدولة والمخزن، قال إليهم، وفرح بهم، وأقبل عليهم، وإذا أتى إليه أحد من العلماء أو الناسكين لم يَعتَنِ بشأنهم، فقيل له في ذلك، فقال: أهل العصيان يأتوننا فقراء منكسرين من أجل ذنوبهم، لا يرون لأنفسهم مرتبة، فأردت أن أجبر كسرهم، وهؤلاء أهل الطاعة يأتوننا أغنياء معتمدين على طاعتهم، فلا يحتاجون إلى ما عندنا، أو كلامًا هذا معناه، ذكره في لطائف المنن. والله تعالى أعلم.


قلت: قرىء بتاء الخطاب، ونصب السبيل؛ على أنه مفعول به، وقرىء بتاء التأنيث ورفع السبيل؛ على أنه فاعل مؤنث، وبالياء والرفع؛ على تذكير السبيل؛ لأنه يجوز فيه التذكير والتأنيث.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وكذلك نُفصل الآيات} أي: ومثل ذلك التفصيل الواضح نفصل الآيات، أي: نشرح آيات القرآن ونوضحها في صفة المطيعين والمجرمين، والمصرين والأوابين، ليظهر الحق، ولتستوضح يا محمد {سبيل المجرمين} فتعاملهم بما يحق لهم من الإبعاد إن بَعُدوا، أو الإقبال إن أقبلوا. أو لتتبين طريقهم ويظهر فسادها ببيان طريق الحق.
الإشارة: سبيل المؤمنين من أهل اليمين، هو التمسك بظاهر الشريعة المحمدية؛ بامتثال الأمر واجتناب النهي، والمبادرة إلى التوبة، إن أخل بأحد الأمرين من غير تحرِّ لما وراء ذلك، وسبيل المتوجهين من السائرين والواصلين: تصفية القلوب وتهيؤها لإشراق أسرار علم الغيوب؛ بتخليتها من الرذائل وتحليتها بأنواع الفضائل؛ لتتهيأ بذلك لطلوع شموس العرفان، والدخول في مقام الكشف والعيان، الذي هو مقام الإحسان، وما خرج عن هذين السبيلين فهو سبيل المجرمين: إما بالكفر، وإما بالإصرار على العصيان، والعياذ بالله.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} يا محمد: {إني نُهيتُ} أي: نهاني ربي {أن أعبدَ الذين تدعُون} أي: تعبدون {من دون الله}، أو ما تدعونها آلهة؛ أي: تسمونها بذلك، وتخضعون لها من دون الله، {قل} لهم: {لا أتبع أهواءكم} الفاسدة وعقائدكم الزائغة، {قد ضللتُ} عن الحق {إذًا} أي: إذا اتبعت أهواءكم، {وما أنا من المهتدين} أي: ما أنا في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم إن اتبعت أهواءكم، وفيه تعريض بهم، وأنهم ضالون حائدون عن طريق الهدى، ليسوا على شيء منها.
{قل إني على بيّنة} أي: طريق واضحة {من ربي} تُوصلني إلى تحقيق معرفته، واستجلاب رضوانه، أنا ومن اتبعني، {و} أنتم {كذبتم به} أي: بربي؛ حيث أشركتم به وعبدتم غيره، أو كذبتم بطريقه؛ حيث أعرضتم عنها، واستعجلتم عقابه في الدنيا، {ما عندي ما تستعجلون به} من العذاب أو المعجزات، {إن الحكم إلا لله} في تعجيل العذاب وتأخيره، أو في إظهار الآيات وعدم إظهارها، {يقَصُّ} القصص {الحق} وهو القرآن، أي: ينزله عليّ لأنذركم به، أو يقضي القضاء الحق من تعجيل ما يعجل وتأخير ما يؤخر، فيحكم بيني وبينكم إن شاء، {وهو خير الفاصلين} أي: القاضين.
{قل لو أن عندي} أي: في قدرتي وطوقي {ما تستعجلون به} من العذاب {لقُضي الأمر بيني وبينكم} أي: لأهلكتكم عاجلاً؛ غضبًا لربي، وانقطع ما بيني وبينكم، ولكن الأمر بيد خالقكم الذي هو عالم بأحوالكم، {والله أعلم بالظالمين} أي: عالم بما ينبغي أن يؤخذ عاجلاً، وبمن ينبغي أن يمهل، فمفاتح الغيب كلها عنده، كما سيذكره.
الإشارة: قل، أيها العارف، المتوجه إلى الله، المنقطع كليته إلى مولاه، الغائب عن كل ما سواه: إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله؛ من حب الدنيا، ومن الرياسة والجاه. قل: لا أتبع أهواءكم؛ لأني قد اجتمعت أهوائي في محبوب واحد، حين وصلت إلى حضرته، وتنعمت بشهود طلعته، فانحصرت محبتي في محبوب واحد، وفي ذلك يقول القائل:
كَانَت لِقَلبيَ أهوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ *** فَاستَجمَعَت مُذ رأتكَ العَينُ أهوائِي
فَصَارَ يَحسُدُنِي مَن كُنتُ أحسُدُهُ *** وَصِرتُ مَولَى الوَرَى مُذ صِرت مَولائِي
تَرَكتُ لِلنَّاسِ دنياهم ودِينَهُم *** شُغلاً بِذِكرك يَا دِينِي ودُنيَائِي
وقال آخر:
تَركتُ للنَّاسِ ما تَهوَى نُفوسُهم *** مِن حُبِّ دُنيا ومن عزِّ ومن جَاهِ
كذَاكَ تَركُ المقَامَات هُذَا وَهُنَا *** والقَصدُ غَيبَتُنَا عَمَّا سِوَى اللهِ
{قل إني على بينة من ربي} أي: بصيرة نافذة في مشاهدة أسرار ربي، فقد كذَّبتم بخصوصيتي، وطلبتم دلائل ولايتي، ما عندي ما تستعجلون به من الكرامات، {إن الحكم إلا لله}، يقضي القضاء الحق، فيُظهر ما يشاء، ويُخفي مَن يشاء، {وهو خير الفاصلين} أي: الحاكمين بين عبادة، قل لو أن عندي ما تستعجلون به؛ من نفوذ دعوتي في إظهار كرامتي، لقٌضي الأمر بيني وبينكم، والله أعلم بالمكذبين بأوليائه.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13